عندما تكون الحقيقة مستهدفة: قتل الصحفيين ومحو الذاكرة في فلسطين


متوفر أيضاً بالإنجليزية

في 25 أغسطس/آب 2025، أسفرت الغارات الإسرائيلية على مجمع ناصر الطبي في خان يونس عن مقتل ما لا يقل عن خمسة صحفيين، من بينهم الصحفية المستقلة في وكالة أسوشيتد برس مريم داغا، والصحفي في قناة الجزيرة محمد سلامة، ومصور وكالة رويترز حسام المصري، والصحفي المستقل في وكالة رويترز معاذ أبو طه، بالإضافة إلى أطباء ومرضى. وقد وقع الهجوم في غارتين متتاليتين، حيث استهدفت الغارة الثانية الصحفيين وأول المستجيبين الذين هرعوا إلى مكان الحادث.

جاء ذلك بعد أسبوعين فقط من غارة جوية على مستشفى الشفاء أسفرت عن مقتل أربعة صحفيين من قناة الجزيرة، هم المراسل أنس الشريف والمراسل محمد قريقة والمصورين إبراهيم زاهر ومحمد نوفل، في ما وصفته قناة الجزيرة بـ”اغتيال مستهدف“ يهدف إلى إسكات آخر الأصوات المتبقية التي توثق الأحداث من داخل غزة. 

قُتل أكثر من 190 صحفياً وعاملاً في مجال الإعلام في الحرب بين إسرائيل وغزة بين عامي 2023 و2025، وهو عدد أكبر من عدد الصحفيين الذين قُتلوا في جميع أنحاء العالم خلال السنوات الثلاث السابقة مجتمعة (2020-2022). وتحذر لجنة حماية الصحفيين ومنظمات حقوقية أخرى من أن هذه القتل تهدم البنية التحتية الهشة بالفعل للتوثيق التي تعتمد عليها المساءلة.

 لم يكن هذا مجرد عمل عنيف منفصل، بل جزء من نمط أوسع من الهجمات التي تستهدف الشهود في غزة. إنها محاولة منهجية لتقويض القدرة على توثيق الجرائم التي ترتكبها إسرائيل. هذه الأعمال لا تُعد مجرد انتهاكات للقانون الدولي، بل ترقى إلى مستوى جرائم الحرب وتشكل جزءًا من حملة أوسع قد ترقى إلى الإبادة الجماعية1. كل حياة تُزهق تمثل أيضًا فقدانًا للذاكرة والأدلة وفرص تحقيق العدالة. إن إسكات التوثيق ليس ضررًا جانبيًا، بل تكتيكًا مقصودًا ومنهجيًا.

 التوثيق في سياقات الحرب والاستبداد ليس محايدًا أبدًا. فهو لا يقتصر على كونه محتوى إخباري أو سلسلة من الصور للاستهلاك، بل هو فعل من أفعال البقاء والمقاومة، وطريقة للحفاظ على الذاكرة حين تنكر الروايات الرسمية الواقع أو تشوهه. الشهادات ومقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية ليست مجرد سجلات للعنف، بل أدوات للعدالة وأجزاء من الأدلة التي يمكن للمجتمعات الاحتفاظ بها للمطالبة بالمساءلة. قد يبرز الصحفيون كأطراف رئيسية في هذه العملية، لكن في غيابهم، تتحمل المجتمعات المحلية والمواطنون الموثقون هذه المسؤولية الجسيمة. تصبح تسجيلاتهم، التي غالبًا ما تتم تحت مخاطر شخصية استثنائية، جزءًا من أرشيف جماعي للحقيقة. وبدونهم، يزداد خطر أن تختفي الفظائع في صمت، وأن تُنكر في الحاضر ولا يُمكن إثباتها في المستقبل.

لهذا السبب، فإن استهداف الصحفيين له آثار تتجاوز بكثير الخسائر المباشرة في الأرواح. فعندما يقُتل صحفي أو يختفى، تتوقف عملية التوثيق، تضيع الشهادات، وتُدمّر الأدلة التي كان يمكن أن تدعم المساءلة. وينتشر الخوف وعدم اليقين بين الآخرين الذين يقومون بالتوثيق، بما في ذلك الصحفيون المواطنون، مما يدفع البعض إلى التوقف عن عملهم أو تقييده. وهذا يؤدي إلى فجوات في التغطية الإعلامية، تاركًا المجتمعات غير مرئية والانتهاكات غير مسجلة. والنتيجة هي ضعف الأدلة، مما يصعّب إثبات أنماط الانتهاكات والسعي لتحقيق العدالة في المستقبل. إن قتل الصحفيين ليس مجرد هجوم على الأفراد، بل هو هجوم على حقوق الإنسان على نطاق أوسع، مجتمعات بأكملها تكافح من أجل إنهاء الظلم.

في WITNESS، يستند عملنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعلى الصعيد العالمي إلى إيماننا بأن التوثيق ضروري لكشف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والمضي قدماً في السعي لتحقيق العدالة.

نحن نوفر الأدوات والتدريب والاستراتيجيات التي تعزز البنى التحتية للحقيقة حتى يتمكن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من السعي لتحقيق العدالة والمطالبة بالمساءلة. يقدم دليلنا الميداني ”الفيديو كدليل“ طرقًا عملية للتصوير بطرق تحافظ على القيمة الإثباتية مع حماية الذين يقومون بالتوثيق. تدعم مواردنا الخاصة بالأرشفة من أجل حقوق الإنسان النشطاء في ضمان بقاء الملفات الرقمية على المدى الطويل، بما يتجاوز عمر المنصات أو الأجهزة. تركز إرشاداتنا حول إجراء المقابلات مع الناجين على الكرامة والأخلاق والرعاية، مع الاعتراف بأن التوثيق يجب ألا يكرر الأذى أبدًا. 

تستضيف موارد غزة الإعلامية، وهي مجهودنا المشترك مع SMEX 7amleh وMeedan الذي بدأ منذ اندلاع الحرب في غزة عام 2023، مجموعة واسعة من المحتوى المجتمعي تحت رخصة المشاع الإبداعي، بما في ذلك إرشادات حول التصوير الآمن لانتهاكات حقوق الإنسان، وطرق أرشفة وتأمين اللقطات الرقمية، وأساليب التحقيقات مفتوحة المصدر (OSINT)، ونماذج للتحقق من المعلومات ووسائل الإعلام. تستند هذه المواد إلى تجارب واقعية، وقد تم إنشاؤها لمساعدة الموثقين على الحفاظ على استمرارية عملهم وحماية الأدلة وضمان بقاء السجلات المهمة بعد انتهاء الأزمات المباشرة.

إن قتل الصحفيين هو تذكير صارخ بما هو على المحك. فهو يظهر أن الحقيقة نفسها هي ساحة معركة، وأن البنى التحتية للتوثيق مستهدفة بالذات لأنها قوية. ما يتم تسجيله اليوم سيحدد ما يمكن تذكره غداً، وما إذا كان من الممكن تحقيق العدالة. لذا، فإن الاستمرار في التوثيق في ظل مثل هذه المخاطر ليس فقط عملاً شجاعاً، بل هو عمل من أعمال التحدي ضد المحو.

الحقيقة موضع نزاع أيضًا بسبب التكنولوجيا. تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي لأتمتة المراقبة والعنف الحربي ضد سكان غزة، ولكنها تُستخدم أيضًا لتقويض الحقيقة. تؤدي المعلومات المضللة التي يولدها الذكاء الاصطناعي وإساءة استخدام أدوات الكشف عن الذكاء الاصطناعي إلى تآكل ثقة الجمهور في المعلومات المتوفرة على الإنترنت وخلق طرق جديدة لتشويه مصداقية الأدلة الحقيقية من غزة وإسرائيل. تم وصف الأدلة على الجرائم أو الأشخاص الحقيقيين الذين يناشدون الجماهير العالمية زوراً بأنها ”من إنتاج الذكاء الاصطناعي“، مما يمحو التجربة الحقيقية ويقوض المساءلة.

يعتبر عمل WITNESS في مجال الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان جزءًا لا يتجزأ من الطريقة التي ندعم بها الموثقين في الخطوط الأمامية في تعزيز الحقيقة. نحن نعمل على وضع إرشادات ومبادرات للدعوة حول كيفية تشكيل مصادر الوسائط الاصطناعية وكيفية الكشف عنها ووضع ضمانات ضدها من أجل حماية أولئك الذين يوثقون الفظائع وعدم الإضرار بهم. وهذا لا يعني فقط تدريب الأشخاص على الحفاظ على أدلة الفيديو، بل يعني أيضًا العمل على الصعيد العالمي لضمان عدم إساءة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة لمحو شهاداتهم.

كل فيديو محفوظ، وكل شهادة مؤرشفة، وكل موثِق مُدرّب هو تجسيد لرفض الصمت الذي يفرضه العنف. من خلال تعزيز ممارسات التوثيق وبناء شبكات التضامن، نؤكد أن الذاكرة ستبقى، وأن الأدلة ستظل متاحة لدعم السعي نحو العدالة والمساءلة. في WITNESS، نقف إلى جانب كل من يواصل التسجيل والحفظ والشهادة تحت تهديد استثنائي، أينما كانوا في العالم. حماية التوثيق لا تعني مجرد تسجيل التاريخ، بل تعني الحفاظ على القدرة على تحقيق العدالة. قريبًا، سنشارك إرشادات عملية جديدة بعنوان “تصوير آثار الهجمات الجوية: مقدمة للموثقين”، لدعم من هم في الخطوط الأمامية في توثيق آثار الضربات العسكرية بأمان وفعالية.


We will be happy to hear your thoughts

Leave a reply

Som2ny Network
Logo
Compare items
  • Total (0)
Compare
0